شواهد القبور أرشيف للمجتمع الفلسطيني

أحمد محمود

أنهى الماجستير عن الصحة والصحة العامة في حيفا خلال فترة الانتداب البريطاني، يكتب الدكتوراة حول التاريخ المحلي للمدن الفلسطينية من خلال قضايا الصحة.

—————————

بمحاذاة “متحف التسامح” المقام على مقبرة مأمن الله في مدينة القدس، ثمة قبر نُصب عليه شاهدين، نُقش على أحدهما بضعة أبيات شعر محا الزمن معالمها وبات من الصعب قراءتها، جاء فيها:  

هو الحي الباقي

1310 هجرية

تعرفنا أبيات الشعر السبعة هذه ورغم صعوبة قراءتها بصاحب القبر حيث تخبرنا بأنه عبد الغني بن أسعد الامام بن محمد الصالح والذي عاش في القرن التاسع عشر ويبدو أن المنية قد وافته في سنة 1310 هجرية \ 1892 ميلادية. في محاولة لاستكشاف قصته يتبين لنا أن عبد الغني ينتمي إلى عائلة الامام الحسيني التي تولت مهمة الإمامة في مدينة القدس حسب المذهب الشافعي، ومن هنا جاءت كنية العائلة “الإمام”.

توثق لنا سجلات محكمة القدس الشرعية تركة عبد الغني الامام، حيث تخبرنا بأن الاسم الكامل لصاحب القبر هو عبد الغني بن اسعد الامام بن محمد صالح الامام. والذي شغل منصب مفتي المذهب الشافعي في القدس، وتزوج خلال حياته من امرأتين الأولى فطومة علي الدزدار والتي أنجب منها ابنيه زهدي وسعيد وابنتين هما صفية وزهية، وتوفيت زوجته هذه خلال سنوات حياته. أما الزوجة الثانية فهي أمونه والتي أنجبت ولدين هما رشدي وراغب وابنتين هما فطومة وزليخة. وهم عملياً ورثة عبد الغني.

بعد وفاة عبد الغني تزوجت أمونة من راسم الحسيني نقيب الأشراف في مدينة القدس، أما يوسف أخو عبد الغني فقد ورث عنه منصب الإفتاء حسب المذهب الشافعي وأصبح الوصي الشرعي على أبناء وبنات أخيه إلى حين بلوغهم سن الرشد. تفصل لنا وثيقة التركة كافة أملاك عبد الغني من بينها ما يزيد عن 70 كتاب من أمهات الكتب إضافة الى مبلغ مالي 11518 قروش من الفضة.   

تنسب عائلة الامام إلى شرف الدين يحيى ابن قاضي الصلت الذي عاش في القرن السادس عشر وكانت له مكتبة كبيرة في المدرسة الأمينية في الرواق الشمالي للمسجد الأقصى، ضمت المكتبة أمهات الكتب التي أوقفها على أبناءه ونسله إضافة الى طلبة العلم وفق المذهب الشافعي. 

على ذات القبر انتصب من الجهة المقابلة شاهد ثانٍ، كتب عليه ما يلي

بسم الله الرحمن الرحيم كل من عليها فان هذا قبر

الفقير الى رحمته تعالى الحج علوان بن إبراهيم الزندي انتقل

إلى رحمته تعالى يوم الأحد سادس شهر المحرم، سنة ستة وعشرين وسبعمائة

شاهد قبر علوان بن إبراهيم، تصوير توفيق دعادلة

نستدل من خلال الشاهد الثاني، أنه لعلوان بن إبراهيم وعلى إسمه سُميت منطقة سويقة علون وهي سوق شهيرة داخل البلدة القديمة في القدس من جهة باب الخليل ويبدو أنها نسبت له بعد أن ازدادت نشاطاته التجارية فصارت سوقاً يحمل إسمه، ولكن اللفظ على ما يبدو قد تغير، فقد اعتاد الناس على تسمية السوق بسويقة علون بدلاً من علوان، تغيير الأسماء واللفظ ليس بغريب فيمكننا مثلاً ملاحظته في تسمية المقبرة نفسها، فبعض الناس يلفظونها مقبرة ماميلاً، والبعض الأخر يلفظها مأمن الله.

أما عائلة علوان وأصولها فتشكل محط نقاش لدى الباحثين، فالخلاف حول كونه  علوان ابن إبراهيم الزندي أم علوان ابن ابراهيم الرندي؟ بحسب توفيق دعادلة فالأرجح أن يكون علوان هو بن إبراهيم الزندي وذلك نسبه إلى زندة احدى قرى بخارى. أما بحسب كامل جميل العسلي فهو علوان ابن ابراهيم الرندي وذلك نسبة إلى قرية رندة في مدينة مالقة جنوب اسبانيا. في حين يرى قارئ النقوش ماكس فان بيرشم بأنه الزيدي نسبة إلى قبيلة زيد[1].

بغض النظر عن النقاش الدائر حول التسمية وأهميتها في اثراء معرفتنا حول من دفنوا في مقبرة ماميلا إلا أن الأهم هو ما يعكسه شاهد قبر علوان من حيث العلاقة بين القدس والعواصم المختلفة حول العالم. علوان نموذج لشخصية من الفترة المملوكية تعرفنا على جانب من تشكل مدينة القدس وتطورها على المستوى الحضاري من خلال سويقة علون كإحدى المعالم الهامة في المدينة، والتي ربما نمر منها يوميا ولا نعرفها، كما تعرفنا على النشاط التجاري، من خلال سيرة شخص ساهم في صقل الهوية المعمارية في القدس.

شاهد قبر عبد الغني الإمام – من جهة أخرى – يمدنا بمعلومات مختلفة حول النشاط العلمي، فهو عالم شافعي انحدر من عائلة علماء تركتها أثرها في الحياة الدينية للمدينة وبالتالي يصير الشاهد مادة مهمة لفهم الواقع الديني لتلك الحقبة.

 هذه أمثلة بسيطة من بين عشرات الأمثلة التي يمكن أن تعرفنا من جديد بتاريخ المجتمع المقدسي وتشكله، ويمكنها أن تكون مدخلاً جديداً لفهم التاريخ الفلسطيني عامة والمقدسي خاصة من خلال ما تحتويه المقابر من معلومات وتفاصيل بحيث يمكن اعتبارها وبحق أرشيفات شاخصة تنتظر من يوثقها ويقرأها ويتعامل معها كآخر الوثائق التي أنتجت حول الفاعلين في المجتمع الفلسطيني بعد رحيلهم.

لكل قبر ميزته ومعلوماته التي يوفرها لنا، فشاهد قبر علوان يحتوي على النص القرآني وتاريخ الوفاة بشكل دقيق، بذلك يعكس النمط المملوكي في الدفن وهو ما يمكن مشاهدته في غالبية القبور المملوكية. أما شاهد قبر عبد الغني فتخلو منه الآيات القرآنية ويحل محلها أبيات الشعر التي تمتدح المتوفى. هذه الميزات وغيرها تُعّبر عن المكانة الاجتماعية للمدفونين في مقبرة مأمن الله وهي ميزات لا تبرز بشكل واضح في باقي المقابر الإسلامية في مدينة القدس.        

إن وجود شاهدين لنفس القبر يدلنا بانه قد تمت إضافة أحد الشواهد للقبر، ويبدو أن أحداً ما قد رأى التخريب فنصب الشاهدين لنفس القبر، أعمال كهذه وغيرها حصلت كنتيجة التدمير الممنهج الذي تتعرض له المقبرة منذ الانتداب البريطاني لفلسطين.

خلال سنوات الثلاثينيات اقترح هنري كندل المسؤول في لجنة تخطيط المدن في بلدية القدس الانتدابية هدم المقبرة والإبقاء على القبور التي تعود للفترة الايوبية شمل المقترح انشاء حي عصري ذو شقق فارهة محاطة بالاشجار. لكن مقترح هندل ذهب ادراج الرياح بسبب اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936.

قبر الأمير علاء الدين ايدغدي الكبكي

بعد خروج الاستعمار البريطاني من فلسطين سيطرت دولة “إسرائيل” الناشئة على المقبرة، والتي خضعت في البداية لسيطرة وزارة الأديان، والتي انشأت على أرض المقبرة “منتزه الاستقلال”. ثم انتقلت السيطرة عليها في سنوات الثمانينات لبلدية القدس، والتي منعت ولا تزال القيام بأية أعمال ترميم للقبور، في حين سمحت بانشاء “متحف تسامح” على أرض المقبرة وفوق حيز احتوى على مئات القبور من الفترة الأيوبية وحتى فترة الانتداب البريطاني، كأن التسامح يُبنى على قبور الراحلين، أو عبر ازالة ارثهم.


[1] Da’adli, Tawfiq. Mamluk EPitaphs from Mamilla Cemetery. Levant 2011, Vol. 43. No 1. P 90

فكرة واحدة على ”شواهد القبور أرشيف للمجتمع الفلسطيني

أضف تعليق