
عن حربي عام 1948
مقال لـ: هليل كوهين
ترجمة: فادي عاصلة
ثمة فجوة كبيرة بين من ينظرون إلى حرب عام 1948 كحرب دفاعية مردها الشعور اليهودي بخطر الابادة الفعلية لليشوف اليهودي، وبين من يراها حرباً توسعية تهدف إلى تقليص الوجود العربي في البلاد. ولكن في الحقيقة كلا السرديتان لا تلغيان بعضهما بل على العكس تكملان الواحدة الأخرى.
تثير حرب عام 1948 منذ سبعين عاماً ذات السؤال دوماً وبشكل متكرر، والذي يمكن صياغته كخيار بين امكانيتين تلغي الأولى الثانية: من كان المعتدي في تلك الحرب ومن الذي حارب بشكل دفاعي ومبرر؟ من كان الشرير ومن البطل؟ هل حاول اليهود تطهير البلاد من سكانها العرب، أم العرب هم الذين حاولوا افراغ البلاد من ساكنيها الصهاينة؟ الاجابات على هذه الاسئلة – وعلى ما يبدو – نُظر إليها دوماً كضرورة لتحديد المسؤول عن ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وأيضاً عن نشأة التفاعلات المختلفة والمستمرة للصراع.
التوجهان الرئيسيان لهاذين السؤالين معروفان حد الملل. أحد التوجهات الشهيرة، هو أن الخطاب الصهيوني الرسمي والباحثين المقربون منه، يدعون أن العرب في فلسطين الانتدابية والدول العربية التي دعمتهم هم من يتحملون المسؤولية الحصرية لنتائج حرب عام 1948، وأيضاً هم المسؤولون عن نشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، لأنهم رفضوا القبول بقرار التقسيم، وأيضاً لأنهم اندفعوا في صراع مسلح في محاولة لالغاء القرار. في المقابل، الخطاب الفلسطيني الرسمي والباحثون المقربون منه يُلقون بالمسؤولية على الطرف اليهودي، ويربطون نشوء مشكلة اللاجئين بالرغبة الأساسية للصهاينة بتهجير العرب من فلسطين من أجل اقامة دولة يهودية، ويربطون نشوء مشكلة اللاجئين أيضاً بعمليات التهجير والمجازر التي قامت بها القوات اليهودية ضد المجتمع العربي خلال الحرب.
هذا الاختلاف غير مفاجيء، فالشعوب كما الأفراد تميل دوماً لتبرير ذواتها واتهام الآخرين. يمكن الادعاء أن معظم المجادلين اليهود، لو ولدوا كفلسطينيين، لكانوا ادعوا أن القوات اليهودية هي “المسؤولة” والعكس ايضاً.
ولكن هل هاذان هما الخيران الوحيدان؟ بمعنى هل فهم معيّن للحرب هو صحيح تماماً في حين أن الآخر هو خاطيء تماماً وبالتالي يجب الحكم بينهما؟ إن نظرة تاريخية مركبة ستجعلنا نرى تغيرات ما في علاقة (المعتدي – الضحية) خلال الحرب، وأيضاً ستجعلنا نتعامل مع المسؤولية كعامل متغير المدى في عمليات احتلال القرى واقتلاع سكانها على يد القوات اليهودية خلال المعارك المختلفة.
لا أدعي أنه كان بالامكان المصالحة بين السرديات المعروفة لأن الحقيقة هي في مكان ما في المنتصف، الاشكالية التي أمامنا ليست اشكالية وسطية، كلا السرديتان تكملنا واحدة منهما الأخرى، لسبب آخر: كل واحدة من السرديتان تتعلق بفترات مختلفة وبسيرورات مختلفة في الحرب. السردية الصهيونية تمثل مراحل معينة في الحرب ولكن الناطقين باسم السردية يطبقونها على الحرب كلها وبالتالي فهم يخطئون الحقيقة، السردية الفلسطينية تمثل بشكل جيد مراحل مختلفة أيضاً، ولكن في حالتها الناطقين باسمها يحيلونها للحرب كلها وبالتالي هم أيضاً يبتعدون عن الحقيقة التاريخية. لأجل فهم جانب الحقيقة وجانب المبالغة في ادعاء كل طرف علينا دراسة سيرورة الحرب منذ بدايتها وحتى نهايتها.
الحرب الأهلية
اعتاد مؤرخي حرب عام 1948 تقسيمها لمرحلتين أساسيتين. المرحلة الأولى التي استمرت نصف عام، وتسمى الحرب الاهلية، والتي كان خلال العرب واليهود مجتمعين سياسيين في موقع سياسي متشابه، وكلاهما كان تحت حكم الانتداب البريطاني. المرحلة هذه بدأت مع بداية القتال، مباشرة بعد تصويت مجلس الأمن على خطة التقسيم في نهاية تشرين الثاني 1947، واستمرت حتى قيام دولة اسرائيل في 14 أيار 1948. المرحلة الثانية للحرب، والتي استمرت سنة وشهرين، معروفة بكونها مرحلة الحرب النظامية أو الحرب بين الدول، لأنها دارت بالأساس بين جيوش نظامية تابعة لدول سيادية. المرحلة هذه بدأت مع دخول الجيوش العربية مباشرة في اليوم الذي تلا قيام دولة اسرائيل في 15 أيار 1948، وانتهت رسمياً مع توقيع اتفاقيات وقف اطلاق النار بين اسرائيل والدول العربية في 1949.
المرحلة الأولى، الحرب بين المجتمعين، بدأت بعمليات هجومية عربية على أهداف يهودية، أي أنها وبالنسبة لليشوف اليهودي قد بدأت كحرب دفاعية والذي سعى في بدايتها إلى تقليص مدى القتال. في الأشهر الأولى من هذه المرحلة كانت القوات اليهودية متفوقة من ناحية الأعداد ولكنهم ضبطوا خطواتهم الهجومية بسبب التواجد البريطاني في البلاد. هذا لا يعني أن المبادرة بقيت بأيدٍ عربية، فخلال أيام معدودة من بداية الصدام بدأت القوات اليهودية، الهاجاناة والإتسل والليحي، المبادرة لعمليات هجومية محدودة. المعارك في هذه المرحلة دارت في كلا الجانبين عبر قوات محلية وليس عبر قوات نظامية، يسندهم مقاتلين من الخارج: متطوعي جيش الانقاذ بقيادة فوزي القاوقجي والذين ساعدوا العرب الفلسطينيين، في حين تجند يهود من الشتات في القوات اليهودية.
دار القتال في الأشهر الأولى للحرب بين المجتمعين في ثلاث قطاعات عمل مختلفة. ففي المدن المختلطة استخدم الطرفان القناصة والعبوات المتفجرة وبمداهمات قصيرة المدى. أما في الحيز القروي فقد هاجمت القوات العربية بلداناً يهودية ككفار عتصيون، طيرات تسفي ويحيعام، كما داهمت القوات اليهودية قرىً عربية كبلد الشيخ والخصاص، أما ساحة القتال الثالثة فكانت في الطرق بين المدن حيث سيطرت القوات العربية على النيران في محاور الطرق المؤدية للقدس الغربية وعلى خطوط مواصلات أخرى، بينما هاجم اليهود خطوط المواصلات التي تربط بين القرى العربية ومراكز المدن.
في مطلع نيسان من عام 1948 نشرت جريدة الدفاع بيانات مفصلة بخصوص أعداد القتلى العرب واليهود منذ بداية الحرب: 963 قتيل عربي، بينهم 249 مقاتل، وفي المقابل 1169 قتيل يهودي، بينهم 625 مقاتل. على الرغم من وجود مصادر تشير إلى أن أعداد القتلى اليهود كانت أقل مما ذُكر بقليل، وعلى الرغم من الاختلاف بخصوص دقة التمييز بين المواطنين والمقاتلين في كلا الطرفين كما ذكرت ذلك جريدة الدفاع، إلا أنه لا يوجد خلاف بأن هذا هو معدل الاصابات في هذه المرحلة من القتال. كان المجتمع العربي في البلاد ضعف المجتمع اليهودي، تقريباً 1.2 مليون نسمة مقابل 650 ألف نسمة – وباتالي فنسبة القتلى اليهود من مجمل السكان كان ضعفي عدد القتلى العرب.
بعد عدة أيام من نشر البيانات هذه، والتي تلخص الأشهر الأربعة التي مضت مذ بدء القتال، حدثت نقطة تحول جوهرية في شكل الحرب بين المجتمعين. كرد على هجوم جيش الانقاذ بقيادة القاوقجي على قافلة يحيعام ومشمار هعيمك، ونجاح الجهاد المقدس بقيادة عبد القادر الحسيني في هجومه على قوافل الامداد للهاجاناة في منطقة القدس. شنت الهاجاناة سلسلة عمليات هجومية، بدأت بحملة نحشون والتي هدفت إلى فتح طريق القدس، اضافة لاستمرار معركة مشمار هعيمك وتحولها لحملة لاحتلال القرى العربية المحيطة بالكيتوتس (المستعمرة).
الهجوم اليهودي المضاد ارتكز بالأساس على خطة دالت، التي أعدتها القيادة العليا للهاجاناة في آذار 1948 مع بدء الانسحاب البريطاني والدخول المخطط لها من قبل الجيوش العربية. هدف الخطة تم تعريفه كالتالي: “السيطرة على مساحة الدولة العبرية وحماية حدودها، بالاضافة لحماية التجمعات السكانية والمجتمع العبري خارجها” بكلمات أخرى، الخطة ارتكزت على مبدء هجومي من أجل الدفاع، مركب أساسي بها كان احتلال مناطق بهدف الاحتفاظ بها (على خلاف الهجوم السريع).
انطلاق منظمة الهاجاناة في حملتها مطلع نيسان 1948 شكل نقطة التحول الأولى في الحرب، القوات اليهودية احتلت مدن طبريا، حيفا وصفد ومحيطاتهن القروية، اضافة ليافا، كنتيجة لذلك هُجر من هذه المدن مئات آلاف المواطنين العرب. القوات العربية تآكلت سريعاً ولم تحظ بأي نجاح ميداني في المناطق التي أعدت للدولة اليهودية. النجاح الجوهري الوحيد كان في المناطق التي أعدت للدولة العربية كاحتلال جوش عتصيون بمساعدة الجيش الأردني النظامي، وذلك في يوم اعلان قيام دولة اسرائيل.
وبالتالي، ففي هذه المرحلة من الحرب بين المجتمعين، قوات الهاجاناة ووحدات الإتسل والليحي الذي عملوا بموازاتها، أبدوا تفوقاً عسكرياً كاملاً واحتلوا مناطق داخل حدود التقسيم وخارجها بما فيها عشرات البلدات العربية. القوات الفلسطينية – تقريباً – انهارت تماماً في هذه الفترة، أكثر من ثلاثة مائة ألف فلسطيني هُجرو من بيوتهم في المدن والقرى التي أحتلت في هذه الفترة، أكثر من سبعين ألفاً نزحوا قبل الانتقال نحو مرحلة الهجوم، وتقريباً ربع مليون شخص نزحوا بعد ذلك. وهكذا فمع انتهاء الحملات هذه، ومساء “إعلان الاستقلال” في أيار 1948، وصلت الحرب بين المجتمعين إلى نهايتها.
حين ننظر إلى معارك الاحتلال الأولى هذه في سياقاتها اللحظية، وليس ضمن سياق التاريخ الصهيوني كله، يمكن أن نرى بها ردة فعل دفاعية ضد الحملات العربية، كانت هذه المعارك وإلى حد كبير حرب لا مفر منها. لم تهدف الاحتلالات الأولى في نيسان 1948 إلى طرد المواطنين العرب، بمعنى أنه لم يكن الهدف الرئيسي، وإنما كان الهدف فتح الطريق نحو القدس الغربية بأقل خسائر ممكنة في الأرواح ولازالة التهديدات العينية في المناطق المختلفة في البلاد، لو لم يهاجم سكان القرى القوافل اليهودية لما كانوا قد هجَّروا.
حتى من يرفضون الحق اليهودي بالسيادة في البلاد أو يتفهمون المعارضة العربية لخطة التقسيم التي أقرتها الأمم المتحدة لا يمكنهم تجاهل حقيقة أن الحملات والاحتلالات الأولى للقوات اليهودية نُظموا بعد مقتل المئات من المواطنين والمقاتلين اليهود بسبب ضعف الدفاع الموضعي وفشل نهج القوافل المحمية، وفقط بعد بدء الرد على الهجمات العربية انتقلت منظمة الهاجاناة، بموافقة المستوى السياسي، للدفاع الهجومي الذي شمل احتلال تلال تطل على خطوط المواصلات، وفي اطار ذلك احتلال القرى التي كانت هناك. ما هي البدائل المتوفرة أمام السكان اليهود في مشمار هعيمك ومحيطها، أو لليهود المتوجهين للقدس؟ تلقي النار دون الرد؟ الاصابة والقتل دون الرد بالنار؟
إلى ذلك يجب الاضافة أن الموقف الرسمي للحاج أمين الحسيني، مفتي القدس ورئيس اللجنة العربية العليا، رأى بأن على نصف اليهود في فلسطين الانتدابية ترك البلاد لكونهم وصلوا إليها برعاية الاستعمار البريطاني، أما اليهود المخضرمين فعلى خلاف ذلك، يُسمح لهم بالبقاء. وبالتالي كانت هذه حرب هدفها العلني تهجير نصف اليشوف اليهودي، والذي لم يكن له وجهه – على ما يبدو – ليمضي إليها.
ثمّ ادعاء بأن الحركة الصهيونية سعت منذ البداية إلى طرد عرب فلسطين، وهو ادعاء صحيح بشكل جزئي فقط، ليس هذا المكان للاطاله في الموضوع – فالحركة الصهيونية احتاجت إلى حجة لفعل ذلك، وهو ما أعطي مُتمثلاً بالهجمات العربية في مطلع 1948، بدون ذلك لم تكن الحركة الصهيونية تستطيع تنفيذ مخططاتها. ومن يعرف؟ لربما لو لم يفتتح العرب هذه الحرب، لكانت الأصوات الداعية إلى السلام داخل الحركة الصهيونية قد غلبت الأصوات الداعية إلى الترانسفير.
لا أدعي من خلال ذلك أن كل ما فعلته القوات اليهودية في مرحلة الحرب (الاهلية) كان مبرراً وضرورياً. من الصعب التمييز بدقة متى يتحول الدفاع عن النفس، أو الدفاع – بشكل هجومي – عن النفس، إلى هجوم حقيقي هدفه “تطهير” مناطق كاملة من سكانها العرب. تتجلى الحالة المركبة هذه في صياغة الخطة دالت، والتي تم تعريفها كخطة دفاعية ولكنها تقترح أيضاً أدوات هجومية وتجيز احتلال مناطق وتهجير سكانها – وتتجلى أيضاً بالعمليات في مناطق القوات اليهودية الذين عملوا أحياناً من خلال منطق ترانسفير وفي أكثر من مرة قاموا بجرائم حرب والتي لا يمكن لادعاء الدفاع الهجومي تبريرها، كتهجير مجتمع مدني غير مقاتل.
في نفس الوقت، لا يجب تجاهل أن المحرك الأساسي للاحتلالات في هذه المرحلة كان دفاعاً عن النفس من خطر محسوس وآني، خاصة على ضوء الدخول المتوقع للدول العربية.
الحرب النظامية:
انتهت الحرب (الاهلية) بين المجتمعين مع اعلان قيام دولة إسرائيل. يوم واحد فقط بعد ذلك، ومع دخول القوات العربية، بدأت مرحلة الحرب النظامية. من وجهة نظر دولة اسرائيل الوليدة، تقسم هذه المرحلة إلى ثلاث مراحل صغرى: مرحلة الدفاع، مرحلة الدفاع الهجومي، ومرحلة الهجوم.
المرحلة الأولى للحرب النظامية استمرت أربعة أسابيع. في هذه المرحلة تحركت جيوش الأردن، سوريا، مصر والعراق، ومعهم قوات صغيرة من دول عربية أخرى باتجاه حدود فلسطين الانتدابية، كان هدفهم المُعلن الحيلولة دون قيام دولة اسرائيل، أو بلغة سكرتير جامعة الدول العربية عبد الرحمن عزام الدرامية: اطلاق حرب ابادة، وإلى جانب هذه التصريحات، بحسب تقارير الجيوش العربية الداخلية فقد توقعوا وبحق، أنه ليس بوسعهم هزم القوات اليهودية، وأن أحد الدوافع الرئيسي لانضمامهم للمعركة كان منع استمرار تهجير الفلسطينيين من بلداتهم. الصراعات الداخلية بين الدول العربية حالت دون بلورة خطة استراتيجية متفق عليها، والمبدء الذي وجه أعمالهم كان تقطيع أوصال الدولة اليهودية إلى مناطق واحتلال أكبر قدر ممكن من المساحات. مع دخول الجيوش انتشرت القوات العربية بالأساس في المناطق المخصصة للدولة العربية (بحسب خطة التقسيم: المترجم)، قسم قليل من هذه القوات دخلت للمناطق المخصصة للدولة اليهودية. أما القدس والتي اعتبرتها خطة التقسيم منطقة دولية برعاية الأمم المتحدة فقد دخلتها القوات اليهودية وأيضاً القوات العربية ودارت بينهم هناك معارك قاسية.
على أثر دخول القوات العربية وجد الجانب الاسرائيلي نفسه يعاني من قلة في العدد واضطر أن يقاتل في عدة جبهات في ذات الوقت أمام قوة نارية متفوقة عليه. كانت هذه حالة مختلفة تماماً عن حالة الأسابيع السابقة حين قاتلت القوات اليهودية أمام ميليشيات محلية وغير منظمة، وهجرت مجتمع مدني غير مُسلح من أماكن تواجده. معظم جهود القوات اليهودية في هذه المرحلة خُصصت لايقاف الزحف في معارك كانت جداً قاسية، تكللت معظمها بالنجاح، ولكن في معظمها لم يستطع الجيش الاسرائيلي الانتقال إلى هجوم مضاد فعال في مواجهة القوات العربية النظامية. وبالتالي فالتغييرات الميدانية في هذه المرحلة كانت محدودة في مداها. ومع ذلك نزح عشرات آلاف الفلسطينيين من المناطق التي احتلتها القوات اليهودية، بالأساس من عكا وقراها، وايضاً من الجليل الشرقي. النجاحات العربية كانوا بمعظمهم خارج الحدود المخططة للدولة اليهودية، وشملت احتلال الحي اليهودي في البلدة القديمة في القدس، واحتلال بلدان يهودية شمال المدينة على يد الفيلق الأردني، وأيضاً احتلال بلدان معزولة في الجنوب على يد المصريين.
في 11 تموز 1948 وافقت الأطراف على وقف اطلاق النار الذي اقترحته الأمم المتحدة، وبالتالي توقف القتال لمدة أربعة أسابيع، ورغم ذلك أخل الطرفين بالاتفاق بشكل متكرر.
انتهت الهدنة الأولى في الحرب مع رفض العرب تجديدها، هكذا بدأت المرحلة الثانية في الحرب النظامية، في هذه المرحلة نشبت معارك العشرة أيام من 9 وحتى 19 تموز 1948. أظهرت هذه المعارك انقلاباً في موازين القوى في الحرب النظامية فقد انتقل الجيش الاسرائيلي من حالة ايقاف الزحف، إلى الهجوم واحتل مساحات واسعة كانت معدة للدولة العربية بحسب خطة التقسيم، كمنطقة شفاعمرو والناصرة، منطقة الرملة واللدّ والقرى في طريق القدس، وكل هذا بدون أن يواجه الجيش الاسرائيلي أي مقاومة حقيقية (في المقابل، في جبهة النقب حدثت معارك قاسية مع الجيش المصري).
إن السبب الأساسي لنجاح الجيش الاسرائيلي في هذه المرحلة كان التفوق الاسرائيلي في العتاد وفي القوى البشرية. فقد أضر الحظر الذي فرضه مجلس الأمن على بيع الأسلحة للدول المقاتلة بالعرب، والذين تلقوا عتادهم من بريطانيا التي التزمت بالحظر. على خلاف الحالة في اسرائيل، والتي استمر تدفق السلاح اليها من الاتحاد السوفيتي ضمن صفقة الأسلحة التشيكية. اضافة لذلك، فلم تعد تشكل الميليشيات الفلسطينية المحلية ثقلاً عسكرياً مؤثراً، فقد تم سحث التنظيمات الفلسطينية المقاتلة تماماً حتى قبل دخول الدول العربية.
لم يلق السكان العرب نفس المصير في هذه المرحلة، فمع توقف القتال بقي معظم سكان الناصرة في بيوتهم رغم مبادرة ضابط من الجيش إلى ترحيلهم، إلا أن بن غوريون أمر بشكل واضح أن يمتنعوا عن ذلك بسبب قدسية مدينة الناصرة. في حين هجر الجيش الاسرائيلي سكان الرملة واللد بشكل منظم ومخطط. تماماً كما تم تهجير سكان القرى الموجودة بين السهل الساحلي وجبل الخليل ومنطقة القدس والذين هُجروا أيضاً في هذه المرحلة. العدد الكلي للمهجرين في هذه المرحلة وصل إلى حوالي 130 ألف شخص.
على خلاف معظم مراحل الحرب، – – يصعب الحسم إن كانت معارك العشر أيام دفاعية من ناحية إسرائيل أو هجومية. فمن جهة العرب هم من رفض استمرار الهدنة، ولكن من جهة أخرى قامت القوات اليهودية بعمليات انتشار تجاوزت بشكل واضح العمليات الدفاعية.
مع انتهاء معارك العشرة أيام، في 19 تموز. بدأت الهدنة الثانية في الحرب، والتي استمرت أكثر من ثلاثة أشهر، ثم تم خرقها بمبادرة اسرائيلية، في 15 تشرين الأول 1948، حين بادر الجيش الاسرائيلي إلى حملة واسعة في الجنوب ومن ثم في الشمال، هكذا بدأت المرحلة الثالثة والأخيرة في الحرب النظامية.

احتلال بئر السبع، تشرين الأول 1948. تصوير: Hugo Mendelson
عدة أسباب وقفت وراء مبادرة اسرائيل بالهجوم، حيث خرقت الهدنة الثانية لصالح عملية الحسم: حالة اللا حرب واللاسلم، واستمرار تجنيد جنود الاحتياط كان قاسياً على المجتمع والاقتصاد في البلاد مما عزز التوجه لاستعجال الحسم. كان هناك تخوف من المجتمع الدولي بأنه قد يفرض مبادرة برندوت، والتي طالبت بتثبيت حدود الدولة الجديدة بحسب خطوط الهدنة الأولى، وأن يفرض على اسرائيل أن تنسحب من النقب، بالاضافة لذلك، كان هناك العديد من بلدات النقب اليهودية معزولة عن امتدادها الجغرافي اليهودي والتي كانت موجودة في المنطقة التي أعدت للدولة العربية.
وعليه فالعمليات في نهاية المرحلة الاخيرة من الحرب كان غرضها تمكين اسرائيل من العودة للحياة الاعتيادية، عبر توسيع حدودها إلى ما بعد حدود وقف اطلاق النار، وأيضاً إلى ما بعد حدود التقسيم، وأن تقلص قدر المستطاع عدد العرب المتبقين في مناطق الدولة الجديد، هذا الهدف يمكن تسميته تطهيراً عرقياً. أو بصياغة بديلة المعارك في هذه المرحلة لم تُعد لتفادي خطر وجودي حقيقي وآني أو لازالة خطر نابع من اقامة الدولة. التفوق العسكري للجيش الاسرائيلي كان تاماً ـ البلدان اليهودية لم تكن مهددة، وقدرة القوات العربية على القتال كانت بحدود الصفر.
معركة الجيش الاسرائيلي الرئيسية في الجنوب وجهت ضد الجيش المصري النظامي في معارك ضارية دفعته للانسحاب من منطقة الساحل الجنوبي: أسدود، المجدل وايضاً من منطقة بئر السبع. وحوالي مائة ألف من سكان المدن والقرى العربية في المناطق المحتلة نزحوا مع الجيش المصري المنسحب أو على أثر حملات اسرائيلية. أحفادهم يملئون اليوم مخيمات اللاجئين في قطاع غزة. قبائل بدوية معدودة فقط والتي ساعدت الجيش الاسرائيلي أو حافظت على حياديتها هي التي بقيت في حدود الدولة.
في الشمال شن الجيش الاسرائيلي في هذه المرحلة حملة حيرام، وفي اطارها احتل الجليل الأعلى تقريباً بدون معارك. بعض القرى الفلسطينية هناك بقيت في مواقعها. قرى أخرى هُجرت بفعل عمليات تهجير ومجازر قامت بها وحدات الجيش التي احتلت المنطقة. عمليات التهجير في المناطق هذه استمرت أيضاً بعد انتهاء القتال. مجموع المهجرين من قرى الجليل في حملة حيرام وصل إلى ثلاثين إلف شخص، معظمهم وصلوا إلى مخيمات اللاجئين في لبنان.
أحد مميزات حملة حيرام في الجليل الأعلى كان عمليات القتل في صفوف المجتمع المدني (العربي – الفلسطيني: المترجم) بدون تمييز، كان الهدف هو التسبب بهروب جماعي للسكان. هاذا ما حدث في الصفصاف، مجد الكروم، عيلبون، سعسع وغيرها. أيضاً في حملات الجنوب كانت حوادث مشابهة: بئر السبع، اطلاق نار على المواطنين وتهجير سكان المنطقة، في الدوايمة عند منحدرات جبل الخليل، مجزرة كبيرة وتهجير سكان المكان.
اضافة لذلك كان هناك حملات عسكرية في مرحلة متأخرة أكثر: حملة حوريف وحملة عوفداة، والتي حدثت في مناطق قليلة السكان، وهذا ليس مركز بحثنا هنا.
ما بعد سؤال التهجير:
استعراض مراحل الحرب المختلفة تقودونا إلى استنتاج بأن هناك اختلاف بين دوافع القتال للقوات اليهودية وسياق تهجير السكان العرب في المراحل المختلفة للحرب. كل مرحلة من المراحل الرئيسية بدأت كدفاع عن النفس – في مقابل الهجمات الفلسطينية في الحرب الاهلية وفي مقابل دخول الجيوش العربية في الحرب النظامية – ثم استمرت في الدفاع الهجومي وانتهت بحملة مخططة وواسعة. خلال مراحل الدفاع الهجومي كان هناك عمليات هدفت إلى تطهير المنطقة من سكان غير منخرطين في القتال وليس فقط من المقاتلين. ولكن من كل مراحل القتال المختلفة، الحملات التي قام بها الجيش الاسرائيلي على مشارف نهاية الحرب في تشرين الأول والثاني من عام 1948، تجاوزت بشكل واضح حملات الدفاع: هذه الحملاتبل كانت حملات توسّعية هدفت إلى تقليص الوجود العربي في الدولة اليهودية.
تفكير قومي سردي يقسم الواقع إلى أخيار صادقين دوماً وإلى أشرار ظالمين دوماً، سواء من وجهة نظر فلسطينية أو من وجهة نظر اسرائيلية يهودية، يتجاهل الاختلافات بين مراحل الحرب المختلفة وينتصر لخطاب سطحي عقيم. اضافة لذلك، لا يمكن التمييز في كل مرحلة من مراحل الحرب الخط الذي يفصل بين حرب هجومية أو دفاعية. مثال واضح لذلك هو احتلال اللد والرملة وتهجير سكانهما خلال حرب العشرة أيام. القيادة الاسرائيلية رأت بهذه المدن في مركز البلاد خطراً استراتيجياً يهدد الدولة اليهودية ولذلك قررت احتلالهما رغم كونهما خارج حدود التقسيم. هل احتلال اللد والرملة يقع في اطار الدفاع عن النفس؟ لا يمكن الاجابة على سؤال كهذا بشكل لا لبس فيه. ومع ذلك يمكن الجزم بأن هناك اختلاف بين ترحيل القوة العسكرية العربية من هذه المدن وبين تهجير السكان الذين عاشوا بهم، عملية تلتقي تماماً مع تعريف التطهير العرقي.
وبعد كل ذلك، نبقى مع سؤال الظروف المختلفة لتهجير الجماعات الفلسطينية خلال الحرب. الدراسة التي تتناول هذا السؤال هي مهمة، ولكن يجب التذكر أنه وقبل كل شيء اللجوء لم يكن نتيجة لتهجير الفلسطينيين من بيوتهم – سواء بالقوة عبر خلق الرعب أو من خلال الاستجابة لنداء القيادات وإنما اللجوء هو نتيجة لمنع عودتهم. السكان يميلون دوماً إلى ترك مناطق القتال، ولكنهم يتحولون إلى لاجئين فقط حين يُمنعون من العودة لبيوتهم أو عند تهجير العائدين إلى بيوتهم بعد انتهاء القتال، كما جرى بشكل ممنهج ومستمر في السنوات التي تلت حرب عام 1948.
النقاش بخصوص مستوى الصدق او الاحقية في منع العودة هو نقاش آخر ليس بوسعنا الاطالة به هنا، ولكن يجب الانتباه لتبريرين اسرائليين مقبولين اليوم ضد عودة اللاجئين، ثمة اختلاف جوهري يميز بينهما. التبرير الأول، يرى أنه يجب منع عودة اللاجئين لأن عودتهم قد تؤدي لسفك دماء مستمر، وهي تمثل نوع من الدفاع عن النفس في حرب لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، وهي تبرر ذاتها ضمن مبدء قدسية الحياة. التبرير الثاني يرى أنه يجب منع عودة اللاجئين لأجل عدم الاضرار بالهوية اليهودية للدولة، وهي تمثل المسعى الصهيوني لاقامة دولة يهودية يكون فيها المجتمع العربي صغير ومهمّش قدر المستطاع، ما يُذكّرنا مراحل الحرب التي أعدت لتثبيت الأغلبية اليهودية والشخصية اليهودية للدولة. تماماً كالاجراءات الاسرائيلية خلال الحرب كلها، أيضاً التبريرات الحالية ضد عودة اللاجئين نابعة من هاذين المنطقين المختلفين، على اختلاف الصحة الاخلاقية لكليهما.
هليل كوهين: بروفيسور في قسم الدراسات الاسلامية والشرق الأوسط في الجامعة العبرية، متخصص في العلاقات المتبادلة بين المجتمع الفلسطيني والصهيونية ودولة اسرائيل. بروفيسور كوهين يترأس مركز تشيرك لدراسة الصهيونية، اليشوف ودولة اسرائيل. كتابه الأخيرة “هبة
البراق 1929 – سنة الصدع بين اليهود والعرب” صدر بالعبرية سنة 2013، بالانجليزية سنة 2015، وبالعربية سنة 2018
نُشر المقال في موقع “هزمان هزي” في آب 2018 على الرابط: https://hazmanhazeh.org.il/1948-war/