من قتل محمد المطري؟

الكاتب: فادي عاصلة

تحرير: عروبة عثمان

 

في عام 1965 دهست حافلة إسرائيلية عجوزًا  يافاويًا، لتحمل هذه الحادثة معها قصةً ملأى بالألغاز. فبعد هذه الحادثة بأيام، كَتَبَتْ صحيفة “معاريف” العبرية في التاسع من شباط 1965 :”القدر يضرب مرة أُخرى في قضيّة تُجّار الأراضي… العجوز اليافاوي ‘المطري’ والذي تُوُفِّيَ دهسًا، كان قائدَ عصابات، ووطنيًا قبع في السجن بسبب علاقاته مع المصريين”.. .كلمات الصحيفة هذه تجعلنا أمام حقيقةِ أنّ دهسه لم يكن حادثًا عارضًا، بقدر ما كان أشبه بعمليّة اغتيال مُدبَرة، خاصةً مع استعادة الصحيفة لدوره الوطني المناهض للصهيونية.

المطري 9 شباط 1965 معريف

معاريف، 9 شباط 1965

حرضّت تلك القصة “خزائن” للكشف عن بعض الجوانب خاصة بعد تواصل عائلته معنا، فارتأينا إخراجها إلى الضوء، بعد بحث مطوّل قمنا به شمل مراجعة عشرات الصحف والأرشيفات الإسرائيلية بين السنوات 1963-1966، ولنتمكن من رسم مسار القصة كالتالي:

 

وُلد المطري عام 1883، وبرز حسّه الوطني منذ طفولته، إذ شارك في الهجمات ضدّ يهود يافا في أحداث 1909، ثم برز اسمه كقائد محلّي خاصّةً في اضطرابات يافا عام 1921، وصُنِّفَ عام 1936 كأحد أخطر قيادات المجموعة الفدائيّة في منطقة يافا واعتقل على يد الإنجليز عدّة مرّات. بعد خفوت الثّورة، برز المطري كأحد رجال الأعمال الذي انكّب على شراء الأراضي والأملاك الفلسطينية، تجنبًا لتسربها للحركة الصهيونية.

 

على إثر النّكبة، أرسل المطري أبناءه لغزّة ثمّ للخارج، والأمل الحتميّ كان يسكنه بانطواء صفحات المشروع الصهيوني وعودة الأرض لأصحابها السابقين. وعلى الرغم من تأكيده لأبنائه بأنّ المشروع الصهيوني سيصبح قطعةً من الماضي ليس إلّا، وأنّه سيبقى في يافا ليحرس أملاكهم بأهدابه، ثم سيُرجعهم إلى البلاد بعد تحررها، غير أنّ شيئًا من ذلك لم يتحقّق، وبدأ أمله بالخفوت تدريجيًا. سافر المطري بعدها أربع مرّاتٍ الى قبرص، وِفق التحقيقات،  حيث استأجر في زياراته الأربعة غرفةً واسعةً في الحيّ التّركي.

 

خلال تلك الفترة التي كان يصارع فيها المطري على وجوده وأرضه، يبدو أن ثمّة صراعًا خفيًّا دارت رحاه بينه وبين شخصين كان عملهما يتناقض تمامًا مع مشروعه. الأول “شريف الشّنطي”، وهو سمسار فلسطيني يافاوي كان يعمل لصالح “الكيرن كييمت/ الصندوق القومي اليهودي” ويُسرّب الأراضي للحركة الصّهيونيّة. أما الثاني “بولاك مغربي”، فهو مستثمر يهودي كان صاحب سينما مغربي. تأجّج الصّراع بينهم عام 1963 على خلفيّة التغرير به وتوقيعه على وثائق، أوهمه كلّ من الشنطي ومغربي بأنها وثائق استئجار لأملاكه لعشر سنوات، قبل أن يتبيّن لاحقًا أنها إيجار لخمسة آلاف سنة. هذه المكيدة التي دبّرها الطرفان للمطري للاستيلاء على أملاكه دفعته إلى تقديم شكوى في الشرطة ورفع دعاوى قضائية ضدهما.

 

وبعد عامين من وصول الصراع إلى ذروته، وُجِدَ شريف الشّنطي مقتولًا بعدّة طعنات على مدخل شقتّه، في الرّابع من كانون الثاني- يناير 1965. ولم يمضِ وقتٌ طويل على ذلك، حتى دَهست حافلةٌ إسرائيلية الحاجَّ محمد المطري، أثناء عبوره شارعَ جمال باشا المحاذي لبيته، وذلك بعد مقتل الشنطي بشهرٍ واحد فقط؛ تحديدًا في الثامن من شباط – فبراير 1965.

شنطي معاريف 6 يناير 1965

معاريف. 6 كانون الثاني  1965

 

هذه الحقائق التاريخية تتيح لنا الانكشاف على جملةٍ من الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن، أهمها: ما العلاقة المنطقية بين الحادثين؟ هل المطري من كان يقف وراء اغتيال الشنطي فانتقموا منه، أم ثمّة من قتل الاثنين ليحصل على أملاك الطرفين، أم أنَ للأقدار تدابيرها كما تذكر الصحيفة؟

الدفاع 9 شباط 65

الدفاع. 9 شباط 1965

وفي خضمّ بحثنا عن خبايا القصة، توجّهنا إلى بعض الشخصيات اليافاوية لسؤالها عن المطري، والشخصين اللذين غَرّرا به. أجمعت تلك الشخصيات على معرفتها بالمطري وامتنانها له، إذ قالت السيدة زينات عياد لـ”خزائن” حينما عَلِمَتْ أننا بصدد فتح ملفه من جديد: “وأخيراً… أخيراً… ستُفتح قصته من جديد. سرقت أراضيه وأملاكه في وضح النهار ويجب ألًا يمر هذا الأمر. لا زلت أذكره حين كان يمر في حارتنا وهو يلبس بذلته البيضاء ويهرول في الشارع.  كان الكل يعرفه ويحبّه ويذكره”.

 

غادرنا الحاج محمد المطري بلا أقارب وأصدقاء يستأنس بهم وحشته.  دُفن وغطّاه الترابُ وحيدًا في قبره بمقبرة الكزخانة، بعيداً عن عائلته وذويه.  حتى قبره لم نستطع إيجاده بين شواهد المقبرة الكثيرة، والتي أكل الزمن حروفها، ليذهب وحيدًا مع سرّه.

 

لا تنتهي التفاصيل المخبوءة في قصة هذا العجوز اليافاوي الجميل، فكثيرةٌ هي الإجابات التي لا تزال قابعة في الظلّ، وتحتاج من يحرّرها. لكن وسط كلّ ذلك، تبقى الحقيقة الثابتة أن المطري شخصية تستحق التوقّف عندها، خاصةً أنه رهن نفسه وحياته للذود عن أملاكه وأرضه، كما يجب فتح ملف أملاكه وإعادتها لأصحابها. وإلى ذلك الحين، ستظل قصّة عجوزنا الجميل حكاية ملغّزة تنتظر من يحلّها كالكثير من الأشياء في تاريخنا. ومع حلمنا بأن يفتح المطري نعشه، ليهمس لنا بالحقيقة، يحذونا أملٌ من جمهور الباحثين بألّا تظلّ الحقيقة محبوسةً على لسان صاحبها الراحل.

 

المطري معريف 8 شباط1965

معاريف، 8 شباط 1965

3 أفكار على ”من قتل محمد المطري؟

أضف تعليق